فصل: قال بيان الحق الغزنوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال بيان الحق الغزنوي:

سورة الممتحنة:
{أسوة حسنة} [4] قدوة. وقيل: عبرة. {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء} [4] العداوة بالفعال والبغضاء بالقلوب. {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} [4] أي: تأسوا به إلا في استغفاره لأبيه المشرك. {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} [5] أي: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق. وهذا من دعاء إبراهيم، وإنما تكررت الأسوة بهذا، إذ كان من إبراهيم فعل حسن: وهو التبرؤ من أبيه وقومه الكافرين، وقول حسن، وهو هذا الدعاء.
{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم} [7] قال الزهري: نزلت في أبي سفيان، وكان النبي عليه السلام استعمله على بعض بلاد اليمن، فلما قبض عليه السلام أقبل فلقي ذا الخمار مرتدًا، فقاتله، فكان أول من قاتل على الردة، فتلك المودة بعد المعاداة. {عن الذين لم يقاتلوكم} [8] خزاعة. و{الذين قاتلوكم} [9] أهل مكة. {فامتحنوهن} [10] استحلفوهن ما خرجن إلا للإسلام دون بغض الأزواج. {فلا ترجعوهن إلى الكفار} [10] حين جاءت سبيعة السلمية مسلمة بعد الحديبية، فجاء زوجها مسافر فقال: يا محمد قد شرطت لنا رد النساء، وطين الكتاب لم يجف، اردد علي امرأتي.
{وءاتوهم ما أنفقوا} [10] أي: ما آتوهن من المهور، وجب ذلك بسبب الشرط ثم نسخ. {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم} [11] أي: غزوتم بعقب ما يغزونكم فغنمتم. وله معنيان، وفيه لغتان: عاقب وعقب، وأحد المعنيين من المعاقبة، التي هي: المناوبة.
والثاني، من الإصابة في العاقبة سبيًا واغتنامًا. {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن} [12] ما تلقطه المرأة بيدها من لقيط فتلحقه بالزوج. {وأرجلهن} [12] ما تلحقه به من الزنا. تمت سورة الممتحنة. اهـ.

.قال الأخفش:

سورة الممتحنة:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قول إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}
قال: {إِلاَّ قول إِبْرَاهِيمَ} استثناء خارج من أول الكلام. اهـ.

.قال ابن قتيبة:

سورة الممتحنة مدنية كلها.
1- {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}: أي تلقون إليهم المودة.
وكذلك: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}
4- {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}... أي عبرة وائتمام.
{إِلَّا قول إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ}... قال قتادة: (ائتسوا بأمر إبراهيم كلّه، إلا في استغفاره لأبيه: فلا تأتسوا به في ذلك، لأنه كان عن موعدة منه له).
10- {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} أي بحبالهن. واحدتها: (عصمة). أي لا ترغبوا فيهن.
{وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ} أي سلوا أهل مكة أن يردّوا عليكم مهور النساء: اللّاتي يخرجن إليهم مرتدّات.
{وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا}: وليسألوكم مهور من خرج إليكم من نسائهم.
11- {وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} يقول: إن ذهبت امرأة من نسائكم، فلحقت بالمشركين بمكة، {فَعاقَبْتُمْ} أي أصبتم منهم عقبي أي غنيمة من غزو.
ويقال: (عاقبتم): غزوتم معاقبين غزوا بعد غزو.
فآتوا: فأعطوا المسلمين {الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ} إلى مكة {مِثْلَ ما أَنْفَقُوا}- يعني: المهر- من تلك الغنيمة قبل الخمس.
وتقرأ: {فعقبتم} من (تعقيب الغزو).
وتقرأ: {فأعقبتم}.
12- {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}، أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
وكانت المرأة تلتقط المولود، فتقول للزوج: هذا ولدي منك.
{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي في أمر تأمرهن به. وأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلم- كلّه معروف.
13-... {كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ} أن يبعثوا، كذلك يئس أولئك من الآخرة أن تكون.
ويقال: (أراد كما يئس الكفار الموتى من الآخرة، أي يئس المشركون من الآخرة، كما يئس أسلافهم الكفار المقبورون).
و(المقبورون) هم: أصحاب القبور. اهـ.

.قال الغزنوي:

سورة الممتحنة:
4 {أُسْوَةٌ}: قدوة. وقيل: عبرة، تأسّى به وأتسى: اتبع فعله.
{وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ}: بالفعال وَالْبَغْضاءُ بالقلوب.
{إِلَّا قول إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ} أي: تأسّوا به إلّا في استغفاره لأبيه المشرك.
5 {لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق، وهذا من دعاء إبراهيم ولهذا تكررت (الأسوة) إذ كان من إبراهيم فعل حسن تبرّؤه من الكافرين وقول حسن هذا الدعاء.
7 {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ} في أبي سفيان، وكان استعمله النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن فلما قبض عليه السلام أقبل فلقي ذا الحمار مرتدا فقاتله فكان أول من قاتل على الردة فتلك المودة بعد المعاداة.
8 {عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ}: خزاعة.
9 {والَّذِينَ قاتَلُوكُمْ}: أهل مكة.
10 {فَامْتَحِنُوهُنَّ} استحلفوهن ما خرجن إلّا للإسلام دون بغض الأزواج.
{فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} حين جاءت سبيعة الأسلمّية مسلمة بعد الحديبية فجاء زوجها مسافر فقال: يا محمد قد شرطت لنا ردّ النساء وطين الكتاب لم يجف.
{وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا} أي: من المهور ووجب بالشّرط، ثم نسخ.
11 {فَعاقَبْتُمْ}: غزوتم بعقب ما يغزونكم فغنمتم، له معنيان وفيه لغتان: عاقب وعقّب وأحد المعنيين من المعاقبة المناوبة، والثاني من الإصابة في العاقبة سبيا واغتناما.
12 {يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ} ما تلقطه المرأة بيدها من لقيط فتلحقه بالزوج.
{وَأَرْجُلِهِنَ} ما تلحقه به من الزنا.
13 {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي: اليهود.
{قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ} ممن مات كافرا وصار إلى القبر. اهـ.

.قال ملا حويش:

تفسير سورة الممتحنة:
عدد 5- 91 و60.
نزلت بالمدينة بعد الأحزاب وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وأربعون كلمة، وألف وخمسمائة وعشرة أحرف.
ويوجد في القرآن عشر سور مبدوءة بيا أيها: هذه والنساء والأحزاب والمائدة والحج والحجرات والطلاق والتحريم والمدّثر والمزمل.
ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ} من دوني دون المؤمنين، فتغتروا بهم، وتصيروا {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} فتفشون أسراركم إليهم وتعلمونهم بأخبار رسولكم وجيوشكم وتطلعونهم على أموركم، كيف يليق بكم أن تفعلوا هذا {وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} على لسان رسولكم، وهو القرآن المنزل إليكم من ربكم، ويريدون بكل جهدهم {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} من أوطانكم ودياركم لشدة عداوتهم لكم لأنهم أعداء اللّه وأعداء رسوله من أجل {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} وترككم ما هم عليه من الذين ليس لسبب آخر فاحذروا أيها المؤمنون من أن توالوهم {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} من مقركم مكة وتركتم أموالكم وأتباعكم {جِهادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي} فإن لم يكن خروجكم وجلاؤكم لهذين السببين فشأنكم وإياهم.
واعلموا أني أنا اللّه ربكم غني عنكم وعن الخلق أجمع، أقول لكم على سبيل التقريع والتعنيف لتذكروا أمركم وتدبروا عاقبته كيف {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} وتظهرون لهم المحبة وتبدون لهم النصيحة بقصد الصحبة معهم خفية عن نبيكم {وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ} من ذلك واني مخبر نبيكم بما يقع منكم، فانتهوا عن هذا ولا تفعلوه أبدا {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} بعد هذا النهي فيسر إليهم بشيء من ذلك {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} (1) وبقي تائها في عماه لا يهتدي إلى خير.

.مطلب الإخبار بالغيب في كتاب حاطب لأهل هكة ونصيحة اللّه للمؤمنين في ذلك:

وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن علي كرم اللّه وجهه قال بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ- بقرب حمراء الأسد من أرض المدينة- فإن بها ظعينة- أي المرأة المسافرة سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم حليف بني أسد بن عبد العزى- معها كتاب فخذوه منها»
قال فانطلقنا تتعادى بنا الخيل حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي من كتاب، فقلنا أخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول اللّه قالوا وفيه أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم، فقال صلى الله عليه وسلم «يا حاطب ما هذا؟» فقال يا رسول اللّه لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلته كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم «انه صدقكم»، فقال عمر يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم «انه شهد بدرا وما يدريك لعل اللّه أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
وهذا من الإخبار بالغيب ودلائل النبوة ومعجزاتها.
وجاء في خبر أنهم لما قالت لهم ما عندي من كتاب رجعوا، ثم قالوا كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم إن معها كتابا وهو لا ينطق عن هوى؟
فرجعوا إليها وقالوا لها ما قالوا بالحديث من التهديد، فأخرجته لهم.
والمراد بإلقاء الثياب ما عندها من أشياء ولباس كي يتحروه لا غير، إذ لا يظن بأصحاب رسول اللّه ما يتصوره الغير من هذا الكلام، قال تعالى مبيّنا ما ننطوي عليه قلوب الكفرة على المؤمنين {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} يظفروا بكم هؤلاء الذين تتقربون إليهم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً} ولا يقدرون مودتكم لهم بل يعدونها نفاقا منكم لهم وخوفا منهم لأنهم يتربصون بكم الدوائر وعند سنوح الفرصة ينتقمون منكم {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتل والسلب والسبي {وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} من سب وشتم وتحقير وإهانة ونسبة الكذب والخيانة، لأن العدو إذا عرفكم خنتم قومكم بما تطلعونه عليه من أخباركم لا يأمن لكم ولا يولونكم من أمرهم شيئا ويقولون لكم إن الذي يخون قومه فهو لغيرهم أخون فلا يركن إليكم ولا يأمنكم، فتبقون محقرين عندهم أذلاء مهانين مهددين بالقتل والسبي إن لم يقتلوكم حالا {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (2) وترجعون إلى دينهم، وإنهم لا سمح اللّه لو ظفروا بكم لقسروكم على الكفر لتكونوا مثلهم وإذ ذاك {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} ولا أقاربكم وأصحابكم الذين يحتجون بهم في الدنيا، إذ لا فائدة لكم منهم ولا ينفعونكم أبدا {يَوْمَ الْقِيامَةِ} غدا عند اللّه ولا يقونكم شيئا من عذابه، فلا يحملنكم وجود أحد عندهم من ذويكم على الرأفة بهم وتخونون رسول اللّه من أجلهم، فإنهم لن يغنوا عنكم من اللّه شيئا هو الذي {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} وبينهم يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه، وليعلم أن من في الأرض جميعا لا ينجيه من اللّه {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإذا أحببتم أيها المؤمنون بما فيكم حاطب المخصوص في هذه الآيات أن تتأسوا بمن قبلكم في أعمال الخير فإنه {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ} خليل اللّه {وَالَّذِينَ مَعَهُ} من المؤمنين به {إِذْ قالوا لِقَوْمِهِمْ} المشركين {إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} حيث تبين لهم كفرهم وقالوا {كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وقاطعوهم في كل شيء فكيف توادونهم وأنتم خير أمة أخرجت للناس، ألا تعتقدون بأفعال هؤلاء الكرام كلها {إِلَّا قول إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فلا تتأسوا به إذ لا يجوز الاستغفار للمشركين، لأن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها من ذكر إبراهيم عليه السلام وما بينهما اعتراض تدبر، وإن إبراهيم لم يقل هذا إلا بعد أن وعده بالإيمان، قال تعالى دفاعا عن خليله {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ} الآية 105 من سورة التوبة الآتية، وأنتم قد تبين لكم أن المشركين أعداء اللّه ورسوله وأعداء لكم فكيف تواصلونهم وتفشون إليهم أسراركم؟ وقد قال إبراهيم لأبيه بعد أن وعده بالاستغفار {وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} لأنه هو ولي التوفيق وكان إبراهيم وأصحابه يقولون في دعائهم {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (4) في الآخرة الدائمة ويقولون أيضا {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في الدنيا لأنهم يعذبوننا إذا تسلطوا علينا ليصرفونا عن ديننا، ولهذا فإنا نبرأ إليك منهم يا ربنا لا تجعل لهم علينا يدا {وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب لكل أحد {الْحَكِيمُ} (5) بما يقع منك على عبادك {لَقَدْ كانَ لَكُمْ} أيها المؤمنون حاطب فمن دونه إلى يومنا هذا، وما بعد إلى قيام الساعة {فِيهِمْ} أي إبراهيم وأصحابه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقدوة جميلة نافعة {لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} فيخاف عذابه ويأمل ثوابه أن يقتدي بهم لا بأفعال الكفار وما يؤدي إلى الكفر بأي قصد كان {وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن نصح اللّه وإرشاد رسله، ولم ينزجر عن موالاة الكافرين {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عنه وعن غيره فليفعل ما يشاء وإن مرده إليه وهو يعلم كيف يعاقبه على ذلك، وهو {الْحَمِيدُ} (6) لفعل أهل طاعته فيثيبهم ثوابا كريما فلما سمع المؤمنون هذه الآيات اشتدت عداوتهم لأقربائهم الكفار ووجدوا عليهم وتبرؤوا منهم، وأراد اللّه تعالى أن يطمعهم فيهم، فأنزل {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ} من أقاربكم الكفار وغيرهم {مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على إنشاء المودة بينكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن تاب منهم وأصلح {رَحِيمٌ} (7) بعباده كلهم يحببهم بعضهم لبعض، وقد حقق اللّه لهم ذلك وأسلم كثير منهم، ثم رخص اللّه تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين بقوله عز قوله: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} بقصد صدكم عنه أو عدم القيام به والتحلي بشعائره ولا يخاصمونكم من أجله {وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ} قسرا فيجلوكم عنها {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} وتعاملوهم بالإحسان والعدل والإنصاف وتصلوهم بالسراء والضراء {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (8) العادلين في ذلك الذين يقابلون المعروف بمثله وأحسن.
روى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنها قالت قدمت عليّ أمي (فتيلة بنت عبد العزى) وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول اللّه وحدتهم فاستفتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: «نعم صليها»، زاد في رواية فأنزل اللّه هذه الآية.
انظر أيها القارئ إلى عظيم إيمان هذه المرأة إذ لم يمل قلبها إلى صلة أمها الكافرة ولا قبولها في بيتها إلا بعد إفتاء الرسول لها بذلك.
وقال ابن عباس نزلت في خزاعة إذ صالحوا حضرة الرسول على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وقد ذكرنا غير مرة أن لا مشاحة في تعدد أسباب النزول وإن آية واحدة قد تكون لعدة حوادث، ثم ذكر اللّه الذين لا تجوز صلتهم ولا مقاربتهم وهم في ذلك الزمن أهل مكة.
فقال جل قوله: {إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا} اليهود وغيرهم {عَلى إِخْراجِكُمْ} من المدينة واستئصالكم.
إذ جاءت الآية عامة فيدخل فيها كل من يفعل ذلك مع المؤمنين إلى آخر الزمان، فلا يجوز للمؤمن مصافاة من هذا شأنهم فيحرم عليكم أيها المؤمنون {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} أبدا وتفكروا فيما هدد به تعالى من يواليهم بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} منكم {فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (9) أنفسهم الآيسون من رحمتي الآئبون بالندم وسوء العاقبة لأنهم وضعوا ثقتهم في غير محلها فلا يلومون إلا أنفسهم عند حدوث ما يسوءهم منهم.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} اختبروهن لتعلموا هل هن مؤمنات حقا أم لا فإن ظهر لكم أنهن مؤمنات فاقبلوهن ولا تقولوا إنهن باطنا غير مؤمنات {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ} منكم لأن لكم الظاهر واللّه عليم بما في الصدور {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} بعد الفحص {مُؤْمِناتٍ} بحسب الظاهر ولم تروا ريبة في مجيئهن وإبقائهن بين أظهركم {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ} بعد ذلك {إِلَى الْكُفَّارِ} أزواجهن الأول {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} لأنهم مشركون {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} لأنهن مسلمات، فتقع الفرقة بينهم، راجع الآية 222 من سورة البقرة المارة {وَآتُوهُمْ} أي أزواجهم الكفار {ما أَنْفَقُوا} عليهن من المهور لأنه حقهم ولم يعطوه إلا لحق الزوجية، وقد انقطعت بغير إرادة الأزواج، فيكون بمثابة بدل الخلع {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} بعد ذلك {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {وَلا تُمْسِكُوا} أيها المؤمنون {بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} اللاتي بقين مشركات في دار الحرب أو اللاتي قد ارتددن ولحقن بدار الحرب {وَسْئَلُوا} من يتزوجهن من الكفّار أن يعطوكم {ما أَنْفَقْتُمْ} عليهن من المهر {وَلْيَسْئَلُوا} الكفار أيضا فيطلبوا منكم {ما أَنْفَقُوا} على نسائهم المهاجرات اللاتي تزوجتم بهن من المهور أيضا {ذلِكُمْ} الأمر الذي أمرتم به بإعادة المهر منكم ومنهم على السواء هو {حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} بالعدل لأنه رب الكل {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (10) نزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية، ولذلك أمر اللّه تعالى بالتسوية بين المؤمنين والكافرين رعاية لعهد الصلح الواقع بينهم ولولاه لم يرد لهم الصداق كما منع فيمن جاء من المسلمات قبل المعاهدة، لأن الوفاء بالعهد واجب قديما، وقد اشتد وجوبه في الإسلام.